الحضارية في تعدد أزواج الرسول
إن من أكثر الشبهات إثارة حول رسول الله محمد r كونه متزوجا بعدد كبير من النساء، فاق العدد المسموح به في الشريعة الإسلامية لكل مسلم، ولم يجد مثيرو هذه الشبهة -أو لم يريدوا أن يجدوا- تفسيرا لهذا الأمر غير قولهم: (إن محمدا رجل شهواني..)! وفي هذا الفصل سوف نفند شبهتهم، ونزيل التهمة عن سيد ولد ابن آدم بما نورده إن شاء الله من حقائق تاريخية، ومقررات شرعية، تهتك ستر هذه الفرية، وتكشف زيفها.
1. كون زواجه من كمال بشريته
إن مما أجمع عليه العقلاء وتواطأ عليه الفضلاء أن الزواج بالنسبة للبالغين من الرجال كمال وليس نقصا، وكذلك ما ينتج عنه من أولاد وذرية مما طبع كل إنسان على محبته والاعتزاز به، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14) ولذلك نرى ذكور كل شعب وقبيلة من البشر يتزوجون إذا بلغوا مبلغ الرجال، ويعدون من لم يتزوج منهم أو من لم يقدر على النكاح ناقصا غير كامل، وكذلك الأديان السماوية شرعت للناس الزواج عند توفر الشروط المادية والمعنوية، وعلى رأس من شرع لهم الزواج أنبياء الله تعالى ورسله قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} (الرعد: من الآية38).
ولذلك كان زواج رسول الله r دليلا عمليا على كمال بشريته، حيث تزوج لما بلغ الخامسة والعشرين من عمره، بالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وكانت قبله تحت عائذ بن عبد الله بن مخزوم فمات عنها فتزوجها بعده أبو هالة بن زرارة التميمي، ثم مات عنها ثم تزوجها رسول الله بعد أن أبدت له -رضي الله عنها- رغبتها في الزواج به r لما رأت من سجاياه الكريمة وشيمه النبيلة، فبعثت إليه تقول: يابن العم إني قد رغبت فيك لقرابتك ووساطتك في قومك، وحسن خلقك وصدق حديثك، وكانت رضي الله عنها يومئذ من أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا، فذكر رسول الله ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب وعمه أبو طالب، حتى دخلوا على والدها خويلد فخطبوها إليه فزوجها, وأصدقها رسول الله عشرين بكرة، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، ورزق الرسول r من أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ستة من الولد هم القاسم وعبد الله ورقية وزينب وفاطمة و أم كلثوم، ولم يرزق من غيرها ولدا، إلا من مارية القبطية أم إبراهيم عليه السلام.
ولم يتزوج r بامرأة أخرى في حياة خديجة رضي الله عنها، ثم تزوج بمكة سودة بنت زمعة وهي ثيب إذ كانت قبله تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو، وكان قد هاجر إلى الحبشة فتنصر ومات بها كافرا فزوجه بها والدها زمعة بن قيس، ثم تزوج بعدها عائشة بنت أبي بكر الصديق، وكانت صغيرة السن، فلم يبن بها حتى هاجر إلى المدينة، ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي واستشهد في غزوة أحد، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية المخزومي، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد، ثم تزوج زينب بنت خزيمة أم المساكين، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب، ثم تزوج جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار الخزاعية من بني المصطلق، وكانت قبله عند مالك بن صفوان المصطلقي، ثم تزوج أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان وكانت قبله عند عبيد الله بن جحش وهو من مهاجرة الحبشة وتنصر ومات بها، ثم زوجه الله زينب بنت جحش وكانت قبله تحت زيد بن حارثة مولى رسول الله r، ثم تزوج صفية بنت حيي بن أخطب وكانت قبله عند سلام بن مشكم ثم كنانة بن الربيع، ثم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية وكانت قبله عند عمير بن عمرو الثقفي ثم عمير أبى زهير، ثم تزوج شراف بنت خليفة الكلبي وتوفيت قبل أن يبني بها، ثم تزوج الشنباء بنت عمرو الغفارية، فلما مات إبراهيم قالت: لو كان نبيا ما مات ولده فطلقها، ثم تزوج عربة بنت جابر الكلابية، فلما قدمت إليه r استعاذت منه بالله ففارقها، ثم تزوج العالية بنت ظبيان، بنى بها ثم فارقها وردها إلى أهلها لعلة كانت بها، وتسرى رسول الله r بمارية بنت شمعون القبطية وريحانة بنت زيد القرظية.
زوجات رسول الله r أمهات المؤمنين
وكان من شرف نسائه r أن كن تحت أفضل زوج و أعدله، وجعلهن الله أمهات لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (الأحزاب)، ولذلك حرم الله الزواج بهن حتى بعد وفاة رسول الله r فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب: من الآية53).
بيت الرسول الكريم والمشاكل الزوجية
وكان بيت زوج النبوة كسائر بيوت الزوجية فيما يحدث فيها من فرح وسعادة لما تغمره من مودة ورحمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21) و قد كان r يداعب أهله ويضاحكهن، ليدخل السرور في نفوسهن.
غير أنه كان يحدث في بيته مشاكل مثل النقص في النفقة الواجبة أو المستحبة، وكذلك الغيرة بين الضرائر، والهجر أو الطلاق وهلم جرا، وهاك طرفا مما كان يحدث من ذلك في بيت زوج النبوة الطاهرة:
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: (حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر t عن المرأتين من أزواج النبي r اللتين قال الله لهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم: من الآية4) فحججت معه فعدل وعدلت معه بالإداوة فتبرز حتى جاء فسكبت على يديه من الإداوة فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي r اللتان قال الله عز وجل لهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}؟ فقال: واعجبى لك يا ابن عباس عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال: إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي r فينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصحت علي امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني فقالت: ولم تنكر أن أراجعك فوا الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل! فأفزعني فقلت خابت من فعل منهن بعظيم، ثم جمعت علي ثيابي فدخلت على حفصة فقلت: أي حفصة أتغاضب إحداكن رسول الله r اليوم حتى الليل؟ فقالت: نعم، فقلت: خابت وخسرت، أفتأمن أن يغضب الله لغضب رسوله r فتهلك، لا تستكثري على رسول الله r ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه واسأليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى رسول الله r -يريد عائشة- وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضربا شديدا وقال: أنائم هو؟ ففزعت فخرجت إليه وقال حدث أمر عظيم، قلت ما هو أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم منه وأطول طلق رسول الله r نساءه، قال قد خابت حفصة وخسرت، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون، فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي r فدخل مشربة له فاعتزل فيها، فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي قلت: ما يبكيك؟ أولم أكن حذرتك أطلقكن رسول الله r؟ قالت: لا أدري هو ذا في المشربة، فخرجت فجئت المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلا ثم غلبني ما أجد فجئت المشربة التي هو فيها فقلت لغلام له أسود استأذن لعمر، فدخل فكلم النبي r ثم خرج فقال: ذكرتك له فصمت فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت فذكر مثله فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت استأذن لعمر، فذكر مثله، فلما وليت منصرفا فإذا الغلام يدعوني قال: أذن لك رسول الله r، فدخلت عليه فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه متكئ على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم: طلقت نساءك؟ فرفع بصره إلي فقال: لا، ثم قلت وأنا قائم أستأنس: يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم، فذكره فتبسم النبي r، ثم قلت لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي r يريد عائشة، فتبسم أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، ثم رفعت بصري في بيته فوا الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان متكئا فقال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت يا رسول الله استغفر لي فاعتزل النبي r من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة، وكان قد قال ما أنا بداخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله فلما مضت تسع وعشرون دخل على عائشة فبدأ بها فقالت له عائشة إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدها عدا! فقال النبي r: الشهر تسع وعشرون وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين، قالت عائشة: فأنزلت آية التخيير فبدأ بي أول امرأة فقال: إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، قالت قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك، ثم قال: إن الله قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:28-29) إلى قوله: {عظيما} قلت: أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة). رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. [size=16]ولعل القاري الكريم قد يستغرب ويتساءل عن مغزى سياق هذا الحديث بطوله، والمغزى هو التنبيه إلى أن زوجات النبي الطاهرات رضي الله عنهن لسن مجموعة من الملائكة معصومات مما يعتري سائر النساء في حياتهن الزوجية وعلاقتهن بعلاتهن، إذ لو كن كذلك لما ظهرت الحكم والمقاصد التي وراء تعددهن واختلافهن.
هذا، وبطبيعة الحال قد اكتسب رسول الله r من زواجه من مختلف القبائل والشعوب نسبا في الناس وصهرا، فأبقى الله نسبه الشريف في العالمين إلى ما شاء الله، يتعبد المسلمين ربهم بمحبتهم وإكرامهم والدعاء لهم دبر كل صلاة بالرحمة والمغفرة والبركة من الله تعالى، فصلّ اللهم وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد.
2. خصوصية النبي في باب الزواج
إنه برغم كون الزواج مما شرعه الله لعباده وسنه نبيه الكريم لأمته فإن لرسول الله خصوصية لا يشاركه فيها أحد من أمته وهي زواجه بأكثر من أربع نساء، فقد قال الله تعالى مبينا حدود ما يباح للمسلم من النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (النساء:3)، ومع ذلك جمع رسول الله إحدى عشر امرأة، وكان يأمر من أسلم من أصحابه وتحته أكثر من أربع أن يختار منهن أربعة ويفارق سائرهن، فعن مالك عن ابن شهاب أنه قال بلغني أن رسول الله r قال لرجل من ثقيف أسلم وعنده عشر نسوة حين أسلم الثقفي: ((أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن)) رواه مالك الموطأ و الترمذي وغيرهما
وهذه الخصوصية فضل ومنة من الله تعالى على رسوله r، ناسب ما كان يمتع به من منزلة وشرف على أمته، وما رزقه الله من قوة بدنية وباءة في النكاح يؤدي بها حقوق أهله تامة غير منقوصة، روى البخاري رحمه الله بسنده عن أنس بن مالك قال: (كان النبي r يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة، قال: قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين) رواه البخاري ومسلم.
ومن كمال عبوديته r لله تعالى وشكره لنعمه سبحانه أنه وظف هذه الخصوصية في الزواج في تحقيق غايات جليلة وتحصيل مقاصد عظيمة تعود على الأمة الإسلامية وعلى البشرية جمعاء بالخير العاجل والآجل في الدنيا والآخرة.
والغريب هو أن أكثر الخائضين في هذه القضية من أهل الكتاب يعرفون أن عدد أزواج النبي r قليل جدا إذا قورن بأعداد بعض من سبقه من أنبياء الله تعالى من بني إسرائيل حيث بلغ عدد زوجات بعضهم المائة أو يقارب، وذلك مدون في كتبهم إلى الآن.
ثم إن التعدد في الزواج مسألة شرعية يبتلي الله به من آمن به من عباده بما يبيح له أو يحظر من عدد النساء ليعلم من يطيعه وينقاد لأوامره فيثيبه على ذلك، ومن يعصيه ويتمرد عليه فيستحق عقابه وغضبه والعياذ بالله، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك:2)، ومهما وصل إليه المرء من عدد الزوجات وفي حدود ما أذن الله به، فهو خير مما يقع فيه كثير من الرؤساء والقادة من غير المسلمين من السفاح والشذوذ الجنسي، فكثيرا ما نسمع عن أولاد لهم من غير بيوت الزوجية بل من السكرتيرات والعشيقات وغيرهن، في قصص غرامية فاضحة تنشر في الصحف وكتب الروايات والجاسوسية...
3. حكمة تعدد زوجاته الطاهرات
بعد أن تحدثنا في المبحث الأول والثاني عن زواج رسول الله r وما خصه الله به في ذلك، فقد آن الأوان لإبراز القيم الحضارية النبيلة، والمقاصد الشرعية الجليلة، في تعدد زوجاته الطاهرات رضي الله عنهن، ثم نحاكم تهمة (الشهوانية) التي رمي r بها إلى تلك القيم والمقاصد التي كان يهدف إلى تحقيقها في زيجاته، كي نرى مدى التباعد بين سلوك (الشهواني) الذي يلهث وراء النساء يتخير منهن ملكات الجمال من الأبكار وصغيرات السن، كلما كبرت منهن واحدة استبدل بها غيرها، وصاحب مشروع حضاري فيه سعادة البشرية في الدنيا والآخرة، أنيط به أمانة تبليغ رسالة الله وتزكية نفوس الخلق، وتعليمهم كل شيء في حياتهم، كما قال تعالى مبينا وظيفته الشريفة r: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة:2)، فانتخب من نساء زمانه أوعية للعلم ونواقل للآداب، ومعينات على الطاعة، وسفيرات للنساء عند بيت النبوة الكريمة، ولكل حادثة من حوادث زواج رسول الله بهن حديث ينم عن حكمة ومقصد.
وقد قسم العلامة محمد بن علي الصابوني الحكم والمقاصد التي من أجلها تزوج رسول الله بهذا العدد من النساء إلى أربعة أقسام وهي:
الحكم التشريعية، والحكم التعليمية، والحكم الاجتماعية، والحكم السياسة، وسوف نتابعه في هذا التقسيم الذي لم نر من سبقه إليه، لكن سنزيد في الأمثلة والشواهد والتعليقات بحسب ما يتطلبه المقام من المقال.
أولا : الحكمة التشريعية
بعث الله رسوله محمدا r إلى الناس ليدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده، وأن يقوم الناس بالقسط في أخلاقهم ومعاملاتهم، وكان رسول الله يبلغ ما أنزل إليه من ربه بقوله وفعله وتقريره، وقد كان من عادة العرب في الجاهلية (التبني)، وقد تابعهم رسول الله r لما لم ينزل من الله في ذلك شيء بعد، حيث تبنى زيد بن حارثة t الذي اختار صحبته وترك أباه وقومه في قصة طويلة... حتى أصبح يدعى زيد بن محمد.
ولما في هذه العادة الجاهلية من المفاسد الدينية والدنيوية نهى الله عنها وأبطلها بتدبير منه سبحانه وتعالى، إذ قدر أن تكون خلافات بين زيد وزوجته زينب بنت جحش كانا يراجعان فيها رسول الله، وستنتهي إلى فراق بينهما، وكان الله قد أطلع رسوله r على شيء من ذلك وأعلمه بأنه سيتزوجها بأمره، ويذكر الله تعالى الفصل الأخير من هذه القصة وينص على الحكمة والعلة من تزويج رسوله زينب رضي الله عنها فيقول: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب:37).
إذن فزواج رسول الله r لم يكن بمحض إرادته بل كان أمرا من الله تعالى لا يملك أمامه أي خيار.
يُتبع